الأحد، 19 فبراير 2017

البطل الشهيد عبيد حاج الأمين وصور بعض شقيقاته وأخت غير شقيقة





البطل الشهيد عبيد حاج الأمين وصور بعض شقيقاته وأخت غير شقيقة 








عبيد حاج الأمين ..... إرسال الطلبة إلي مصر








 دور عبيد حاج الأمين في إرسال الطلبة إلي مصر للتزود بالعلم والمعرفة

 وتبقي كلية غوردون علي الرغم ما بها من تحفظات، الصرح الهام الذي يغذي شبيبة تلك الفترة بالعلم والمعرفة وتبادل الثقافات وتنظيم الأشعار الوطنية خفية وفي مناسبات مختلفة كالأعياد وخلافه ولكن هل هذا كل ما يطمحون إليه؟ بلا ! لقد كانت أنظارهم تتجه نحو مصر وثقافتها العالية والنهضة المتقدمة وهذا هو تيار العمل السري من طلبة وموظفين وغيرهم، فهل ينجح أحد منهم في الخروج من قبضة المستعمر إلي مرماهم ، إلي مصر؟.  نعم .... في خريف عام 1923م ودع الرفاق من جمعية الاتحاد السوداني الطالبين (توفيق البكري، وبشير عبد الرحمن)، بمحطة الخرطوم للسكة الحديد، حيث رافق المودعين ("دينمو" الحركة الوطنية، كما لقبة صديقه سليمان كشة)، عبيد حاج الأمين الذي كان يؤمن أشد الإيمان بأهمية التعليم والنهل منه بقدر كبير، وبه تزدهر الأمم وتعلوا شامخة، و الرفاق شاعر الاتحاد توفيق صالح جبريل، وصاحب نسمات الربيع وعضو الاتحاد سليمان كشة، وهؤلاء الثلاثة من مؤسسي حزب الاتحاد السوداني. فعندما أنطلق القطار يحمل أول طالبين للعلم بمصر، صحابتهما دعوات الرفاق بان تواليهم رعاية الله وألا ينكشف أمرهم حتى يبلغوا مصر أمنيين، واستجاب الله لدعواتهم وتم لهم الوصول بسلام، وأكرم وفادتهما في منزله العامر فضيلة الشيخ الجليل"محمد نور الحسن" أحد علماء السودان بالأزهر الشريف. ولم يمر هذا الحدث بسلام!!! . فجن جنون الانجليز وصب جم غضبهم علي هؤلاء العصاة الذين فروا من قبضتهم، فكيف لهم أن يخرجوا عن طاعة أولياء أمورهم، فما لبثوا أن شنوا عليهم حرب شعواء وسدو أمامهم منافذ الرزق والمعونة، وحرموا علي هلهم ارسال أي مبالغأهلهذويهم إرسال أي مبالغ مساعدة لهم، فعاشو علي الكفاف وما دون الكفاف. وهنا يري الانجليز إن التعليم له دور في خلق رجالاً مناهضين لسياستهم عاملين لنيل إستقلالهم، وكيف لا ؟.... فقد عانوا من أثر التعليم في مصر وثورة 1919م"بقيادة سعد باشا زغلول" فهم لا يرغبون تكرار ذلك، الذي بات وشيكاً امتداد ثورة في السودان، لذلك جري معاملة الهاربين لمصر طلباً للعلم معاملة المجرمين الخارجين علي القانون، بل منعوا من العودة الي ذويهم وصحبهم، وها هو أحد طلبة العلم في مصر يرسل بعض ما جاشت به نفسه الي الصحاب لكي يصف لهم ما يعاني من فقد كثير، أثر في نفسه، فقال توفيق البكري منشداً: 

بكي في الدجى والناس لا يسمعونه
شكي ما يلاقيــــه   فـنـــفس حزيـنة
تناوحه الآلام من كـــــــل   جــــانب
                                                                                     

وهل تنصت الأسماع للحسرات؟
وجدُ  رمــــاه  الـــدهر بالعثرات
و تعتاده  الأحــــزان  مختلفات


 وهنا يرد عليه شاعر الاتحاد مواسياً رفيقه ومشد من أزره, ألا وهو توفيق صالح جبريل :

أري الأســد البـــاكي يفرج كربـــه
وينــــصت كالمصغــي لدقــات قلبه
جيــــــوش من الأحزان بدد شملها
                                   

وحيداً كثيب النفس في الظلمات
ويرعي نجوماً لحن مضطربات

بسيف من الصبر الجميل مواتي


  وها هو الشاعر والمهندس محمد أحمد المحجوب، يرد لتوفيق البكري مواسياً، فيقول:

يـــا شاعراً تبكي ومجــدك آتي
أرسلت دمعك من فؤادك فائضاً
                                           

اسقيني  خمراً مــن العبــــرات
فجرت دموع الصحب منهمرات



 ولم تقف هجرة بل هروب الطلبة التي تتوق إلي النهل من العلم من السفر إلي مصر وها هو رفيق أخر ألا وهو :الدرديري احمد إسماعيل يروي قصته : (وفي سنة 1922 أو ما قبلها بدأت تباشير حركة وطنية للنهوض بالسودان وكانت تعمل في الخفاء، وشجع رواد تلك الحركة الميمونة الزميلين المرحوم بشير عبد الرحمن وتوفيق أحمد البكري بالهجرة إلي مصر لطلب العلم فذهبا، وكانا الرائدين إذ بعد عطلة الصيف أو الخريف في سنة 1923 عاد الطلبة من مدنهم وقراهم وسمعنا بهجرة الزميلين. ومنذ تلك اللحظة قررت أن ألحق بهما، وجاء امتحان النقل من السنة الثانية للثالثة وكنت أول فرقتي، وجاء موعد اختبار الدفعة الثانية لمدرسة "كتشنر" الطبية فوقع عليّ الاختيار فرفضت لأني كنت معتزماً الهجرة (ولأوفر) مكاناً لمن كانوا يريدون، فأصر المستر "بودال" فرفضت مؤقتاً. ولما جاءت عطلة صيف 1924 بدأت تباشير الحركة الوطنية بقيادة "جمعية اللواء الأبيض" وقامت أول مظاهرة بأم درمان فسمعت بالنبأ وعدت من بلدي في الحال بنية السفر إلي مصر أو الاتصال بإخواننا الطلبة في العاصمة المثلثة فأصلت أولاً بالأخوين المرحومين (عبيد حاج الأمين وعرفات محمد عبد الله)، من جمعية اللواء الأبيض وكان همزة الوصل الأخ والزميل (صالح باخريبة). وكتب المرحوم (عبيد حاج الأمين) لمصر للزميلين (بشير وتوفيق)، فكانت إجابتهما مخيبة للآمال لأنهما كانا يعيشان علي الكفاف ويجاهدان جهاد الأبطال للدراسة ليلاً بأمعاء خالية!!!. فاتجه إلي أن أبقي وان تنظم حركات إضرابات في الكلية كجزء من اللواء، فاتصلت في ذلك الوقت بالطلبة الذين بقسم المهندسين ويقيمون بالكلية للتمرين مدة الصيف، وأذكر إن لم تخني الذاكرة ـــ منهم الأخوين (عليّ نور وعمر الريح)، وأذكر أني اتفقت مع المهندس (عليّ نور) علي أن نكون قسماً "للواء الأبيض"، وكنت أجتمع أيضاً بالأخ المرحوم (محمد عباس أبو الريش) مؤسس مكتبة "النهضة السودانية"، والمرحوم إدريس عبد الحي الطالب "بالمدرسة الحربية"، آنذاك ليقوم كل منا في إشعال روح الثورة في مدرسته. وفي ذات يوم وعلي حين غرة ذهب الصديق (صالح باخريبة) إلي منزل العم (مصطفي كشة) بحثاً عني، وعلمت بعد ذلك فذهبت إليه في منزله فناولني "ثلاثة جنيهات" علي إنها من المرحوم الزعيم (عبيد حاج الأمين)، ومن مال "اللواء الأبيض"، لأقوم إلي مصر في اليوم التالي وكان يوم الأربعاء في آخر يوليو سنة 1924 علي أن يقوم المرحوم (عرفات محمد عبد الله)، بأكسبرس الجمعة ونلتقي في الشلال، فاستقللت الدرجة الرابعة ووصلت الشلال وأقمت في "الجبل" بقهوة أفترش الثري ليلتين كاملتين ولم يبق معي غير "75" قرشاً. وجاء المرحوم (عرفات) وذهبنا إلي مصر فكنت ثالث طالب، والتحقنا ثلاثتنا بمدرسة (فؤاد الأول) الثانوية، في أكتوبر سنة 1924، وفي 18 نوفمبر 1924 قتل السردار السير لي ستاك في القاهرة فألقي القبض علينا، وكان أن تبع ذلك انقطاع أخبار السودان عنا، وكان هناك ما يشبه الستار الحديدي، وكان التعب، وكانت الحياة الشاقة إذ أكثر الناس عطفاً علينا يبتعد عنا لمضايقة البوليس السري. وفي سنة 1926، كان الدكتور "عليّ ماهر" وزيراً للمعارف فالتمس من صديقه وزير الأوقاف في ذلك الوقت "محمد عليّ علوبة" باشا، عمل مساعدة لنا فكان أن قرر لكل منا "75" قرشاً في الشهر، كنا ندفعها أجرة "الشقة" التي كنا نعيش فيها(رقم 14 حارة الجداوي بباب الخلق) وكانت هذه الشقة محجاً لكل السودانيين يتتبعون أخبار السودان وتكتب المقالات هناك من المرحوم عرفات والمرحوم فرغلي، وتوفيق وبشير، وكل من يدلي بدلوه في أذكاء نار الحركة الوطنية بقيادة وكيل "جمعية اللواء الأبيض" بمصر الأستاذ (عرفات محمد عبد الله). ولا ننسي فضل أخواننا المصريين من ضباط الجيش الذين خدموا في السودان وساهموا في مساعدتنا وفي مقدمتهم المرحوم الصاغ "محمد عوض" واللواء "أحمد الصاوي" والأميرالاي "عليّ عليّ موسي" وغيرهم، وكان الشيخ "محمد نور الحسن" خير عون لنا إذ لم نأكل اللحم أو نأكل أكلاً مغذياً إلا حينما يعود في الإجارة ليسكن معنا، وكان غذاؤنا (عيش وطعمية وسلطة لبن أو طحينة). وفي أكتوبر سنة 1927 تكرم طيب الذكر المرحوم (الأمير عمر طوسون)، بعمل إعانات شهرية لنا نحن الثلاثة (توفيق وبشير وكاتب هذه السطور الذي كان يتقاضي أربعة جنيهات بجانب الكساوي التي كانت تقوم بها دائرة سموه في بداية كل دراسي)..... وبمناسبة ذكر الأمير "عمر طوسون" قال لي الفريق "محمد عثمان هاشم" ـــ حيث والده أحد أعضاء الحركة الوطنية ـــ عندما حدثه والده عن طلبة العلم الذين يهربون إلي مصر ويجدون قلة من المال وتلزمهم مصاريف كثيرة فكتب إليّ "عبيد حاج الأمين"بأمرهم فعلم منه انه يراسل سمو الأمير "عمر طوسون" الذي عرف عنه كثير من الخدمات التي يقوم بها من أجل طلاب العلم بمصر، ووعدني الفريق بالبحث عن الخطابات التي تخص والده والتي كانت بينه وبين عبيد ولكن لم تمهله العلة التي ألمت به وفاضت روحه إلي بارئها رحمة الله عليه.

كتاب نسمات الربيع ..... عبيد حاج الأمين



مشاركة عبيد حاج الأمين في كتاب نسمات الربيع

 بمناسبة الاحتفال بالليلة الختامية لمولد رسولنا الكريم صلّ الله عليه وسلم في 12 ربيع الأول العام 1342هــ  لسنة 1923، حيث أقيم الحفل في سرادق الحكومة بأم درمان، وشباب الخريجين يشتعلون حماساً الكل يحمل أشعاره ليتباري بها أما الحشد الغفير، والشعور الوطني زاد كثيراً من زى قبل، ومنظر الطلبة وهم بالزى الوطني من جلباب وعمامة، أمثال الشبيبة العاملة في الحقل السري، توفيق أحمد البكري، سليمان كشة، وآخرون في زى (الأفندية) كما أطلق عليهم في تلك الحقبة، عبيد حاج الأمين، وعثمان هاشم، ومن أشعار عثمان هاشم:

ناد القوافي فإن لباك شاردها
        

فصغ بديــع معــانيها بإمعــان

إني تعهدت فيه أن أعيد بــه
         

في مولد المصطفي أيام حسان
 
 ثم، شاعر أخر أكثر حماسة وأثار ضجة كبيرة عندما جاء بشعره وخالف العرف السائد لمثل هذه الاحتفالات، فلم يكتب أشاعره علي ورق بل أراد أن يقرأ ما حفظ، ولكن رفض له هذا العمل الحديث علي عهدهم وهنا وقف مأمور أم درمان وقتها "عبد الخالق حسن" ذاك الرجل الطيب الذي أحبه الكثيرون وهو أخر مأمور مصري لمدينة أم درمان، فقال مخاطباً لجنة الاحتفال:" أن يدعوا هذا الشاب يتلوا علينا قصيدته وأنا أتحمل تبعاتها، ثم أخذ (الفتي مدثر البوشي) يقول:

سلام علي الدين الحنيف وفتية
          

علي عهدهم ترعي النهي والمحارم

تبدل ماضينا ولم تبــق سنـــة
           

وصـار لـــنا مما نعــــد المـــواسم

إذا شئت يا ذات الثنايا تشاهدي
           

بنيك علي مــــر الليــالي فـــهاهـــم

نفوس أبت فعل الخيرات لأهلها
          

وأيـــد إلي الأعداء نـــعم أللــــــهازم

وكيف يداني الناس محمّد أحــمد
         

وأحمد نودي حيث جـبريــل  واجــم

مــلائكة الرحمــن أحراسه ومـن
          

مقــاتلة الأنــــصار جـــند مقـــــــاوم

ولهذه القصيدة(بعض أبيات منها)، أثر في نفوس الحاضرين ومتنفس لما يشعرون به من كبت ولكن، أثارت حفيظة الانجليز وتم استجواب الفتي وتدخل أصحاب الشأن وتم إخلاء سبيله.... هذه بعض من أبيات لشعراء ذو ثقافات عالية ودراية كبيرة ووعي بما يحدث في تلك الفترة من مظالم وقهر وكبت للشعور والوطني وما أكثر هؤلاء الشبيبة وقتها، ويفتتن الناس بهذا اللون من الشعر الثائر، ويتمني كل فرد من الحضور لو حصل علي هذا الشعر ويجعله من ضمن مقتنياته، ولكن هل كل الأماني محققه، نعم! هذا الفتي من الذين يعملون في الحقل السري ورفاقه أبوا ألا يفوتهم مثل هذا الشعر الذي يعبر عن كثير من مشاعرهم المكبوتة، وتنفس كل منهم الصعداء في هذه الليلة، فماذا فعلوا؟... يقول صاحب هذه الفكرة "قصة كتاب نسمات الربيع"، من مذكراته التي سجلها في مجلة (مرآة السودان):" كُنا قد كونا (جمعية الاتحاد السوداني السرية) ومن أغراض هذه الجمعية بث الثقافة ونشر التعليم، وفي نوفمبر 1923 كُنا نحن أعضاء شعبة أم درمان من الجمعية قد قررنا أن تدخل الجمعية ميدان النشر وان نخصص لها أسم "الرابطة السودانية" وان يكون النشر باسمي لأنيي ليست موظف حكومة. أما المسائل الفنية والمالية الخاصة بالنشر فكان مسئولاً عنها "يوسف أفندي الريح" الموظف بالمساحة "رحمة الله عليه" لبعده عن الشبهات الحكومية ولعدم معرفة جل أعضاء الجمعية به ولثقتي فيه وتثنيه صديقي "عبيد حاج الأمين".....






 ووجدنا ان لو استطعنا فجمعنا كل القصائد التي تقال في ليلة المولد هذا العام وطبعناها وبعناها لكانت الفائدة مزدوجة، ولكن كيف الحصول علي القصائد؟. كان مشروطاً علي الذين يريدون إلقاء قصائد في ليالي المولد أن يقدموا نصها مكتوباً للمراقبة، ولا يسمح لأحدهم أن ينطق إلا بما نال الموافقة!. وكان المجازفون يقدمون شيئاً ويقولون شيئاً، ونحن في حاجة لما يقولون، وقد كان من بين أعضاء أم درمان الذين حضروا بحث هذا الموضوع، (القاضي ... أحمد بابكر بدري) فأشار علينا بطريقة كانت ناجحة، وهي أن نكلف ستة من أعضاء الجمعية، وقدم نفسه ليرأس ثلاثة منهم، فيكتب كل منهم صدر بيت يقال، وكل علي حدته ويكتب الآخرون العجز. وإختاروني رئيساً لأصحاب العجز، فاخترت الزميلين الشيخ عمر العمرابي(عضو الشيوخ سابقاً)، والمرحوم عبيد حاج الأمين، واختار أحمد بابكر بدري الأساتذة ألبدري الريح"رحمة الله عليه" والمرحوم الأمين علي مدني، وعلي ما أذكر محمد عثمان عيسي"ابن رجاء", (وهو التوقيع الذي عرف به وهو يكتب في الحضارة)، ونجحت الخطة (وهؤلاء هم الفتية الذين شاهدناهم متخفين داخل السرادق، منكبين يسجلون خفية ما يسمعون)، ولما  قارنا وجمعنا كل ما كتب كونا مجموعة القصائد وهي كل ما قيل، فنسخناها في كتاب صدرناه بهذا الإهداء (إلي كل من وضع لبنة في تشيد صرح النهضة الأدبية، إلي النفوس الطامحة للرقي والتقدم، إلي القلوب النابضة بحب البلاد، إلي الضمائر الحية النقية، بل إلي شباب البلاد الناهضة وزهرته اليانعة...)

بسم الله الرحمن الرحيم

   (البلد الطيب يخرج نباته بإذن الله) شعب عربي كريم يدين بدين الإسلام الحنيف دين الإخاء والحرية والمساواة، هطلت عليه من سماء العروبة قطرات أنعشت روح الأجداد فازدهرت جنة أدبائه، وأينعت وهذه فاكهة من ثمارها قيلت في الليلة الثانية عشرة من شهر ربيع الأول سنة 1342هـ، ذكري للمولد النبوي الشريف. وقد حدا بي إلي جمعها ما حازته من استحسان فأحببت ألا يفوت النائين استنشاق هذه الزهور التي تتسرب رائحتها إلي الأفئدة والقلوب فتعشقها والذكري تبعث الذكري. وهكذا تم طباعة وإصداره بعد معاناة مع الطباعة وقلم المخابرات الانجليزية الذي وقف بالمرصاد لكل عمل يزيد من الوعي والتثقيف وبمساعدة السيد حسين شريف... ثم تسلم سليمان كشة أول نسخة من كتاب نسمات الربيع، ووُزعت علي أعضاء جمعية الاتحاد في الأقاليم فمنهم من باعها بعشرة قروش وهو الثمن الذي قدر له ومنهم من باعها بخمسة وعشرين قرشاً وآخرون باعوها بجنية، وكل الأموال كانت حصيلة لمالية "جمعية الاتحاد السوداني السرية"، ولكن هذا الكتاب أحدث بعض المواقف مع شخص سوف يأتي ذكر بطولاته فيما بعد ألا وهو "الضابط عليّ عبد اللطيف"....




 إذ يقول سليمان كشة في مذكراته:"وما كانت صلتي الودية مع المرحوم الضابط عليّ عبد اللطيف متينة، ولكنه لم يكن عضواً في الاتحاد معنا لفرط تطرفه، فقد زارني في منزلي بأم درمان عقب النسمات محتجاً ومنبها إلي اللهجة التي سلكتها في المقدمة إذ قلت(شعب عربي كريم) وأراد أن أقول (شعب سوداني كريم)، إذ لا فرق بين عربي وجنوبي، فأكبرت ذاك منه وظللنا بعدها صديقين علي أساس مصلحة السودان وان لم تجمعنا أحدي الجمعيتين فلم أكن أحد أعضاء اللواء الأبيض ولم يكن هو أحد أعضاء الاتحاد السوداني. 

في أخر العام 1922...اُعلن رسمياً الملك فؤاد ملك مصر والسودان.













الملك فؤاد ملك مصر والسودان:

لندن في 2 نوفمبر ـــ لمراسل الأهرام الخصوصي ـــ أنشأت مجلة "نيرأيست" مقالاً عن علاقة مصر بالسودان قالت فيه:"إن لجنة الدستور أصدرت تسمية ملك مصر، بملك مصر والسودان بالرغم من أن السودان من المسائل المتحفظ بها للمفاوضات المقبلة بين مصر وانجلترا. ومع أن السودان تابع للمملكة المصرية فان الدستور لا يسري عليه، وستوضع له إدارة خاصة. ولما كان المصريين يعلقون أهمية كبري علي مجرد الكلمات وكان النجاح في ما يظهر من التفنن في التعبير فلا يبعد أن تكون اللجنة قد اعتقدت إن المصريين يحصلون وحدهم علي مراقبة السودان بإدراج هذه العبارات، ونحن نقول أنه كلما قرب اليوم الذي تزول فيه أوهامهم كان ذلك خيراً.
"الأهرام الجمعة 3 نوفمبر 1922 ـــ العدد (13887)"
 وبهذا التتويج الملكي لمصر والسودان، أراد هؤلاء الشبيبة الناهضة العاملة في الحقل الوطني السري، إعلان برنامجهم السياسي ورفع صوتهم إلي الشعب المصري قائلين لهم ها نحن في السودان فتية نعمل علي إذكاء روح الحماس في كافة طبقات الشعب السوداني، ونساندكم في معركتكم التي هي أيضاً معركتنا ضد الانجليز، وسوف نسبب لهم كثير القلق إلي أن نحصل علي الحرية لنا جميعاً إلا وهي حرية وادي النيل شماله وجنوبه، ولا ننسي إن كل الاجتماعات تتم في "دار فوز" التي هي الأمان عن أعين المخابرات فأي ذكاء هذا الذي كانوا يستخدمونه أولئك الشبيبة الناهضة. 

النشرات السرية التي كانت تزعج الإنجليز







النشرات السرية تزعج الإنجليز:


النشرات التي كانت توزع تقلق الإنجليز أشد القلق، لذلك حتموا علي جعل بعض من رجالهم يتعقبون الفتية المتعلمة لعلهم يهتدون لمن يقود هذا العمل المشين في نظرهم ويؤدي إلي زعزعة أمنهم وسلامتهم، فعندما يشكون في أحد يهرعون بتفتيش منزله وعلي سبيل المثال كان يفتش بيت "عبيد"، وفي مرة تعقبه البوليس هو في طريقه إلي المنزل وعندما وجد أن لا مفر غير الدخول للمنزل أسرع بإعطاء المنشورات إلي شقيقاته اللأتي كُنّ في "التُكل" ـــ المطبخ ـــ فأسرعن بوضعها في "قفة الخضار" أي (سلة خضار)، فتمت المداهمة، وذلك وسط صراخ وهلع شقيقاته، فبحثوا في جميع أرجاء المنزل ولم يخطر ببالهم أين المنشورات .... ذكرت لنا جدتي "نفيسة"، بعدما علمنا بميوله السياسية وعداوته للإنجليز أصبحنا نخاف عليه كثيراً، ولما لا فلديهم تجربة فقد الأخ الأكبر (عثمان الخبير) غيرالشقيق الذي ضل طريقه في التجارة ولم يعود أبداً، ويأتي (عليّ عبد اللطيف) لزيارة "عبيد" في زيّيه العسكري، وعندما يقابل والدة عبيد" يرفع (الطاقية) محييّا ويقول لها " العين لا تعلو علي الحاجب"، وهذا العرف يتبع "للعسكريين فقط"، وتصفه فتقول ( عليّ عبد اللطيف شخص مؤدب ومثال لحُسن الخلق والتهذيب ولو لم يكن كذلك لما أدخله علي أهل بيته).





جزء من الفصل الثامن للكتاب (دار فوز)



كيف وأين إلتقي الشبيبة للتخطيط للعمل السري؟


لا أحد يصدق كيف وماذا فعل هؤلاء الفتية "الشبيبة" الناهضة من أجل عمل يجمعهم لتنفيذ كل ما يربوا إليه من إستقلال بلادهم التي تمثل بالنسبة لهم "مصر والسودان" منصهرتان في وحدة وادي النيل، ولكن كيف يتم هذا اللقاء وقرون الاستشعار ترصد كل تحركاتهم وتمنع أي إجتماعات حتى الإحتفالات يتصدرها الإنجليز ويدسون أعينهم في كل ركن منها، لم يتسرب اليأس في جسد هؤلاء ولم يكن الخوف يعرف طريقاً إلي قلوبهم، وبكل شجاعة وإقدام قرروا ألقاء في (دار فوز)، فما هي هذه الدار ولماذا تم إختيارها؟. فوز هي سيدة تهوي الغناء والطرب وجعلت من دارها ملتقي لمن يطرب بالغناء وقضاء سهرات هناك، وكما هو معروف وفي ذاك الزمان مثل هذه الأماكن تعتبر بالنسبة لشعب مثل الشعب السوداني ذو التدين والتمسك بالقيم والمبادئ شيء غير مقبول ولا يمكن أن يرتاد مثل هذه الأماكن من أبناء العائلات وذوي الأصول المعروفة، وهذا هو مطلب هؤلاء (ذكاء غاب علي البوليس السياسي)، وفي رأي المتواضع أطلق علي هذا المكان (دار فوز) ــ (معمل التنويم المغنطيسي للإمبراطورية البريطانية)، تلك الإمبراطورية التي قهرت العالم وأصبحت من العظميات في زمانها أراد هؤلاء الفتية تلغينها درساً بطريقتهم الخاصة فهل نجحوا في زعزعتها وتخويفها أم تغلبت عليهم؟. وبذلك قرر الشبيبة أن تكون لقاءاتهم بين من لا ينفع ولا يضر، فبدأت فعاليات الطريق للعمل السري, وبالفعل اُستقطب عدد غير قليل من فتية لا هم لهم غير قضاء وقت في لهو دون إستثمار طاقاتهم المكبوتة، محطمي الآمال لا ينظرون للمستقبل نظرة المتفأل، فعندما وجدوا إن للحياة معان سامية والوطن ينتظر منهم الكثير .... شب الشباب وتفتحت لهم أفاق رسموا طريق الخلاص، وبدأ الحديث عن الصراع ضد الإستعمار رغم عدم التكافؤ، ولكن الإصرار والعزيمة والتفاني في العمل الجماعي مع الحماس والشجاعة، كل هذه القيم الجميلة إختلطت مع دمائهم وسوف يصبح الحديث الذي كان بالأمس همساً، غداً صوتاً مدوياً، من ( دار فوز ـــ معمل التنويم المغنطيسي للإمبراطورية البريطانية) نشبت المعركة فكانت حامية الوطيس. فكانت لهذه الدار أيضاَ حلقات من الفن والأدب والشعر بجانب الغناء والطرب، ثم الموضوع الهام وهو ..... تكوين جمعية  "الاتحاد السوداني"  أول حزب سوداني في تاريخ السودان الحديث الذي تصعّد فيما بعد (وليس إنشق كما قيل) إلي "جمعية اللواء الأبيض". فما هو أول حزب ناهض الإستعمار وكيف نشأ ؟ .

جمعية الإتحاد السوداني السرية أول حزب سياسي في السودان

 كما هو معلوم لم يترك الإنجليز بلداً إستعمروها إلا وفرضوا كامل سلطانهم علي من وما فيها، وللتغلب علي الصعاب الجسام التي واجهت من يقوم بأي عمل يخالف نهجهم، ذهب بعض فتية تشربوا بالوطنية ونالوا قسطاً من التعليم، فتح لهم كثير من آمال طالما تطلعوا إليها، فبدأت الفكرة في أنشاء صرح وطني يعبر عن ما بداخلهم من شعور نحو بلادهم الغالية عليهم، وفي تلك الفترة كانت المنطقة المحيطة بالقطر السوداني من شماله وجنوبه شرقه وغربه، بها كثير من فتيّة نضال يواجهون جمّ الصعاب لنيل حريتهم وطرد الإستعمار الدخيل علي بلادهم. فكيف تم ذلك ؟. أقتبست تلك الكلمات من كتاب (ملامح من المجتمع السوداني)، للأستاذ المخضرم حسن نجيله وهو واصف هؤلاء الشباب الوطني فقال: " ولو عرفتم أي جو كان يعمل أولئك الشباب الميامين وأي سيوف من الإرهاب كانت مسلطة علي الرقاب، لأكبرتم لهم تلك الجهود ولخلدتم ذكراهم بين أكرم الخالدين في التاريخ. الله وحدة يعلم أي عناء كانوا يلاقون وهم يبنون الحركة الوطنية وينشرون الوعي".... تكونت جمعية الاتحاد السوداني في حوالي العام 1920، من شبيبة ناهضة أبت ألا أن تكون لها وجود حتى ولو كان سراً، وفعلاً أنشأ كل من (عبيد حاج الأمين، توفيق صالح جبريل، إبراهيم بدري، سليمان كشة، ومحي الدين جمال أبو سيف)، النواة الأولي لأول تنظيم سري في السودان، وهو (جمعية الاتحاد السوداني)، له نهج، حيث أن به خلايا سرية لا يتجاوز عدد أفرادها الخمسة، ويديرها جهاز (أعلي) وهم الخمسة المؤسسين للتنظيم، وإذ ما أرادوا ضموا لهم من ممثلي الخلايا. له من الأهداف:
1-      مناهضة الإستعمار بنشر المنشورات سراً لجميع طبقات المجتمع السوداني.
2-      بث روح الوطنية بين الشباب من خلال تلك المنشورات.
3-      التشجيع علي التعليم للنهوض بالبلاد.



جزء من الفصل الثامن لكتاب عبيد









الأسباب التي أدت الي نهوض الشبيبة لمكافحة الاستعمار:  الشبيبة الناهضة من المتعلمين والمثقفين خريجي "كلية غوردون" الأفندية، رغم الضغوط الممارسة عليهم من قبل حكومة السودان "الإنجليزية"، وجدوا متنفساً بمتابعة الجرائد والمجلات المصرية من ما تسني لهم ذلك، لصعوبة الحصول عليها، شبة محرمة عليهم، وعند نشوب ثورة الزعيم "سعد زغلول" في مصر(1919)، أصبح الخلاص من كل ما عانوا من بطش وظلم وقهر المستمر.... فجره قريباً إليهم..... وجعلوا من "سعد" بطلهم المنقذ، وقرنوا في كل أقوالهم: (يحيّ الملك فؤاد الأول ويحيّ سعد وتحيّ مصر ويحيّ شعب وادي النيل)، ومن ثم وجدوا من يناصر قضية وادي النيل من كتاب ووطنيين فشجعهم هذا الي قيام تنظيمهم السري، كبداية لنشاط سياسي خفيء فلم تتسني لهم فرص الجهر به. والسبب الأخر الذي دفعهم للعمل السياسي السري، هو سفر أول وفد سوداني إلي إنجلترا لتقديم التهانيء لملك بريطانيا بمناسبة إنتهاء الحرب العالمية الأولي وفوز إنجلترا في تلك الحرب، وكثرت الإحتجاجات والإنتقادات في الجرائد المصرية لسفر الوفد، والشبيبة تقرأ هذه الأراء وتتفاعل معها، تطور تلك المراحل أثرت في أفكارهم ودفعتهم إلي التفكير بكل جدية لعمل يعبرون فيه عما يعانوا من ظلم وجور وكراهية لهذا الغاصب كما عبروا عنه في رسائلهم.